مَطَرٌ مِنْ نَار
سَحابٌ يُعانِقُ حُمرَةَ السّمَاءِ ..
وَرِياحٌ تُطفِئُ قُرصَ الشّمس ..
تُمطرُ عيناي .. كَما تُمطِرهَا الذّكريَات دمًا وألمًا ..
غُبَار الوِحدَةِ الكَاوِي لَا يُفَارقُ نَبضهَا ..
يَختَبِئُ صدى صَوتُهَا بَين الألوَان القُرمُزِيّة ..
بِشغَبٍ يَتَسَلّقُ ذاكِرتَهَا .. وَبِعُنفٍ يَقتَحِمُهَا ..
الذكرَياتُ والأحلامُ تُسَابِقُهَا .. تَودُّ النّيلَ مِن جَوّ شَجَنِهَا ..
تُحَاوِلُ الهُرُوب مِنهَا .. تُسرِعُ خَلفَها ..
وَتَلتَصِقُ بشُرُودِها ..
تُسرع .. تَسألُ الأرضَ عَن حُبورٍ مَن تَحتَها ..
وَالسَمَاء عَن جَفوةِ البَشَر ..
تَمضِي بِلا إدرَاكٍ .. حيثُ الأجسَادُ النّائِمة ..
تَسألُهَا ما تَفعَلهُ فِي جُنونِ اللّيل ..
تَحاوِل النّومَ جَنبَها والسّفر مَعَها ..
لَكِنّهَا لا تَقوى .. إِلّا عَلى الدُّخُول إلَى الخَارِج ..
وَالتّقَدّم إِلَى الوَراء ..
فَالعَوْدَةَ لِبَعضِ رِوَايَاتٍ عَن أسْطُورَةِ الصُّمُود ..
وَلَا قُوّة لذَاكَ الجَسَد الهَزِيل وَلّا حولَ أمَام طَوافِ الحَنين ..
بَينَ عَاصِفةِ البُكَاءِ وَإلحَاحِ السُّؤال ..
أَسَتِجِفُ الدّمَاءُ التِي أمسَت عَلَى أرضِي أنهَارًا ؟!..
أسَيُقلِعُ دُخانَ السّمَاءِ عَن خَطِيئتِهِ فَتَخرُج عَن مَذهَبِ الْسَّوَاد ..
وَلَا تَضفِرَ خِصلَاتِ السَحابِ بألَمٍ وانهِيار ؟! ..
أَحقًا لَنْ يَهطُل مَطرٌ آخَرٌ مِنْ نَار ..
عَلَى زُهورٍ فِي عُنُقِ الصَّبَاحِ يُدمِيهَا الظّلَامُ والحِصار ؟ ..
أَلنْ تَتَعَلَّقَ الدِّماءُ مُجَدّدًا بِأغصَانِ الْزَّيتُون ..
وَتَقتاتِ مِن رُوحِي الرّغبَة بِالإنْفِجَار ؟! ..
عِدِينِي يَا سَمَاءُ أنَّ أوْرِدَتَكِ لَنْ تَخِرَّ مُجَدّدًا ..
لتَزُجُّ عُيُونَ الاصْرَار فِي بَحْرٍ مِن دَمٍ وَ نَار ..
* * *
تَهُزُّهَا رعَشَةٌ كُلّمَا رأتْ صُوَرَهُم ..
فَذِكْرَاهُم صَبَغَتِ الحَوَاس بِمَاءِ الأَلَمِ والجَفاءِ ..
هَاهِي الذَكرى تَعود بِفوضَى خَرسَاء .. وَصَمتٍ صَاخِب ..
غِوَايَةُ النّار.. وألسِنَةُ اللهبِ.. وحُمرَةُ السماءِ.. وزُرقَةِ العيونِ..
وَكَأنَّ حَدَثًا قَرِيبًا يُؤَذّنُ بِالرّحِيل ..
أَصرُخ .. ” أمِّي .. أمِّي مَطَرٌ مِنْ نَار ..
يَقْنُصُونَ الحَيَاةَ بِأَرْضِي .. أُمّي!.. أينَ الفَرَار .. ؟ ”
قُلُوبٌ تَهتِفُ بِالشَّهَادَةِ بِجَلجَلةِ اللّقَاء ..
وَقَلْبِي تَوَقّفَ مِن فَاجِعةِ التَّرَقُّبِ وَالإنْتِظَار ..
رَجْفَةٌ سَكَنَت نِصفَ جَسدِي .. وَالنّصفُ الآخَر عَاوََدَتهُ حُمَّى الإنْهِيَار ..
يُبعِدونَنِي مُرغَمَةً .. لِأحَدّقِ نَحْوَ الْضَّوءِ الأَخْرَس .. نَحوَ حَرَائِقِ المَطَرُ …
نحو أهلِي وَقَد زُجُّوا فِي رحِم الحَربِ لِيكُونُوا جَنِينَها الأَوَّل ..
تَتَلاعبُ بِي عَوَاصِفُ الخَوف .. وَتَقتَاتُ الرَّعدَةُ مِن أوْصالِي ..
لِأقتَرِبَ مِن الدِّفءِ المُهَشَّم ..
مِنْ عُمقِ المَطَر الكَاوِي .. ” لَا إلَهَ إِلّا الله .. مُحمّدٌ رَسُوُلُ الله ” ..
أهزُوجَةُ أَلَمٍ وَارتِبَاكٍ يُرَتّلُها جَسدِي كُلّما اقتَربتُ من فُوّهةِ البُركَان ..
” بُنَيتي، هُنَا الْنُّورُ وَالْنَّهَار ..
هُنَا الْأَرْضُ وَالإِسْتِقْرَارْ .. ”
تَصْهُلُ شِفَاهِي لتُعَلّقَنِي فِي السَّدِيمِ لحَظاتِ النّهَايَةِ ..
” ضُمِّينِي .. ”
فَمُحَالٌ أنْ تَترُكُونِي .. قَبلَ أنْ تَضمّوا قلبًا غَدَا دُونَكُم وَحِيدًا ..
مُحالٌ أنْ تَتْرُكُونِي جَمِيعُكُم ..
صَمْتٌ لَاغٍ ..
يَا لِغُربَةٍ هَذَا المَسَاء .. وَيَا لِصَخَبِهِ النّاقِمِ عَلي ..
بِذاتِ الوَجعِ بِين زَواياه ..
غُيُوم تَهطِلُ أشوَاكًا ..
شِفَاهِي مَحمُومَةٌ تَتدَلّى مِنهَا آهَاتٌ مُتَمَرّدةٌ ..
يَهزِمهَا الهَواء ..
فَتَعُودُ مِن حَيثُ أتَت .. بِارتِجافٍ هادِئ ..
جُدرانُ بيتِنا تَساقطَت ..
أرضُنا أضِحتْ مَسرَحًا تَلتَهِمُهُ النّيِران ..
وَ هَشِيمًا تَذرُوه الرّيَاح ..
كُلُّ شَيءٍ بِمدِينَتِي أعلنَ الارْتِطَام بِصَخبٍ أَصَمَّ العَالَمِين ..
* * *